النديم لمناهضة العنف والتعذيب

هيثم محمدين يكتب عن حياة الزنازين

في السجن كل شيء يتغير .. البشر والحجر يصبح مجرد رقم .. والأشياء تسمى بأسماء جديدة .. تقوم بوظائف ليست هي وظيفتها .. الحبل و الولاعة يشكلان دولابك الصغير .. الحائط يمكن أن يكون وثيقة أو نشرة أو جريدة .. تحفظ الذكريات الحلوة والمرة و تسجل التواريخ والأحداث .. تنقل الأخبار و الرسائل .. الحائط نفسه يصبح أنواع ولكل نوع أهميته التي تفرق في حياة البشر وراحتهم .. كما أن للحائط في السجن أسماء عديدة .. وكل اسم لها دال على وظيفة ومكانة .

البطانية المطوية أيضا لها في السجن أهمية ووظائف كثيرة غير التي يعرفها البشر .. البطانية في السجن هي بيتك الصغير .. بيتك المفتوح دائما على بيوت الجيران الصغيرة والمتلاصقة .. تستقبل عليها ضيوفك .. عليها تأكل وتشرب و تنام .. هي الحلم والكابوس .. تلازمك أينما تحركت أو رحلت .. تتغير قدرتها على أن تريحك بتغير موقعها بين بطاطين الجيران .. فإذا كنت مستجد ستبدأ دورة الحياة في العالم الجديد من أمام دورة المياه .. وبدلا من أن تكون البطانية هي فراشك تصبح أنت وهي ” دواسة ” أهل العالم الجديد بقوانينه و نظامه المميت .. يفترض أن تنام ووجهك أمام المراحيض .. ينبغي عليك أن تتعود على لون واحد وحيد .. الرمادي الكئيب .. تحاول أن تنام بإرادتك لكنك بالتأكيد لا تصحو من نومك بإرادتك .. تنتزع من نومك العميق فجأة على كلمة “التمام” .. السرير يتحول إلى “نمرة” .. ودولابك هو ” العصفورة ” .. وموقع شقتك / نمرتك داخل العنبر يتغير من ( الطرقة ، للصف ، للمراية ، للجنب ، للمصلب) . تنام “مسيف” وتريح عظم ركبك بوضع “فخادة” مخدة صغيرة تضعها بين عظام ركبتيك .. مساحة سريرك محدودة ” شبر وقبضة” .

لا خصوصية لك داخل السجن .. تتعود أن تنام وجسدك ملتصق بأجساد الآخرين .. ستارة الحمام لا تمنع أن يدخل عليك احد .. كل شيء في السجن يهدر كرامتك في كل لحظة .. وجوه شاحبة تتعود عليها حتى يأتيك وجه شاحب جديد سرعان ما تختفي ملامحه الجديدة ..

فتحة الباب التي لا تجاوز حجم كتاب تصبح هي “النضارة ” .. اسمها كذلك و هي فعلا تقوم بنفس الوظيفة .. فأنت ورفاقك داخل الزنزانة بدونها عميان .. من خلالها تطل على مساحة أوسع .. ترى نور أوضح .. ووجوه أخرى .. من خلالها أيضا تتحدث إلى جيرانك .. فهي نضارة و تليفون وتليفزيون .. تنادي منها على الرقم الذي تريد أن تتحدث إليه فيرد عليك أي سجين .. في السجن ٢٢ بيكلم ٥ .. كمان النضارة وسيلة دعاية سياسية .. بالليل وبعد أن تخف حركة الحراس تصدح النضارات بالأناشيد و الأشعار و الهتافات .. تستطيع مع الوقت أن تعرف مصدر الصوت .. والانتماء السياسي الذي يعبر عنه .. فعندما تسمع مطلع أنشودة ” الله غايتنا .. قرآننا دستورنا .. رسولنا قدوتنا .. والموت في سبيل الله أسمى أمانينا ” تعرف انه معتقل من جماعة الإخوان المسلمين ..ثم يأتيك الرد من عنابر الجنائي هذه المرة ” انت بتقول اييييييه ” و ” البطة مش ليك يا مرزوق ” .. يتنقل الصوت من عنبر إلى عنبر ” إحنا الصوت ساعة ما تحبوا الدنيا سكوت ” ربما احد شباب ٦ ابريل أو الاشتراكيين الثوريين هذه المرة .. ” افتح سجنك واكسر بابه قولوا للكلب يلم كلابه ” فيأتي الرد سريعا من عنبر جنائي ” باب ايه يا عم يعني مفيش حاجة بتتكسر ” وهكذا تستمر النضارة في الكلام

لا تستغرب من قدرات النضارة فلا يعرف قيمتها الا من أغلقت في وجهه .. عندما تغلق إدارة السجن النضارات تشعر وكأنك سجنت جوه السجن .. إغلاق النضارة يعني إغلاق التليفزيون والتليفون و سد الهواء النظيف عنك .. إغلاق النضارة يعني العمى .. وإغلاقها له مدلول ومعنى أيضا ..إما انه قد وردت للتو مجموعة من الشباب تعساء الحظ و يتم تجهيز حفلة الاستقبال لهم .. فتأتيك عبر الجدران صرخاتهم .. أو أن إغلاقها إيذان بعملية تفتيش لإحدى الزنازين قد تكون هي زنزانتك فتتسارع دقات قلبك خوفا من “بهدلة التفتيش” .. في السجن تعلو الفرحة لنبأ إفراج عن زميل .. ترتفع التهليلات والتكبيرات فرحا “للإسفلت” وشوقا إليه .

مواضيع ذات صلة